منذ عودة ترامب… القطاع الإنساني يواجه أزمة وجودية
الخميس - 08 مايو 2025 - 11:06 م
أحداث العالم_ متابعات
ترافقت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بتخفيضات هائلة في المساعدات الإنسانية. وفي الوقت الذي أصبحت فيه التأثيرات على الأرض محسوسة بالفعل، تواجه الفرق العاملة في المجال الإنساني، اضطرابات كبيرة في بيئات أعمالها.
استغل دونالد ترامب عودته إلى البيت الأبيض في 20 يناير الماضي، لشن هجوم غير مسبوق على الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). ووصف الرئيس الجمهوري الكوادر المسؤولة فيها، بأنها “مجنونة، ويسارية، ومتطرفة” واتهمها “بالاحتيال الكبير”، دون أن يقدم أي أدلة على ذلك.
وبناءً على طلبه، جرى تعليق معظم برامج الوكالة، التي تقدّم مساعدات إنمائيّة، وإنسانيّة أميركيّة في مختلف أنحاء العالم، في انتظار عمليّة إعادة التقييم. وأعلنرابط خارجي ماركو روبيو، وزير الخارجيّة، في 10 مارس، إلغاء 83% من برامج الوكالة.
وقد بلغت ميزانيّة الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة نحو 40 مليار دولار في عام 2023، ونفّذت برامج في أكثر من 100 دولة، مما يجعلها مسؤولة عن أكثر من نصف إجماليّ الإنفاق الأميركيّ على المساعدات، بما في ذلك العسكرية منها، الذي يقدّر بنحو 70 مليار دولار سنويًّا.
ومن بين المبادرات التي جرى وقفها، توزيع الأغذية على السكان المتضررين من الجفاف والصراع في إثيوبيا، وبرامج صحة الأم والطفل في هايتي.
البرامج المُلغاة
أحدث تفكيك الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة صدمة قويّة في أوساط القطاع الإنسانيّ، الذي يعتمد على التمويل الأميركيّ لتغطية نحو 40% من موارده. ورغم صعوبة تقدير الحجم الكامل للتخفيضات التي طُبّقت، أو التي يُحتمل تنفيذها لاحقًا، فقد أصبحت آثارها محسوسة بالفعل.
وتتلقى العديد من وكالات الأمم المتحدة تمويلًا كبيرًا من الولايات المتحدة، إمّا من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو مباشرة من وزارة الخارجية. ويشمل ذلك، من بين هيئات أخرى، برنامج الأغذية العالمي (PAM)، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين (HCR)، وبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز (ONUSIDA)، ومنظمة الصحة العالمية (OMS)، التي قررت إدارة ترامب، الانسحاب منها.
وبسبب خفض تمويل الوكالة، أفادت الأمم المتّحدة أنّ شريحة من السكّان في أفغانستان، تتجاوز 9 ملايين شخص، مهدّدة بفقدان خدمات الصحّة والحماية، كما أنّ توزيع المساعدات النقديّة على مليون شخص في أوكرانيا، الذي بدأ العام الماضي، مهدّد بالتعليق، إضافة إلى احتمال توقف تمويل برامج دعم لاجئي.ات الحرب في السودان.
وتعتمد العديد من المنظّمات غير الحكوميّة، خارج الأمم المتّحدة، أيضًا على المساهمات الأمريكيّة. وقد أعربت هي أيضًا، عن استيائها من إغلاق العديد من المشاريع، إذ قرّرت إدارة ترامب إلغاء آلاف العقود مع المنظّمات غير الحكوميّة، في جميع أنحاء العالم.
وقالت إيلين مورو، رئيسة قسم السياسات والمناصرة، في المجلس الدولي للوكالات التطوعية (ICVA)، وهي شبكة منظمات غير حكومية مقرها جنيف: ” يتعيّن على المنظمات غير الحكومية الآن، اتخاذ قرارات صعبة بشأن المشاريع التي يتعين الاحتفاظ بها، وتلك التي يجب إلغاؤها، أو نقلها إلى جهات فاعلة أخرى. ونحن نتحدث عن قرارات صعبة حقًا، وليس عن قرارات تُتخذ في زمن وفرة. وحتى قبل هذه التخفيضات، كان النظام يعاني من ضغوط شديدة، وسط عجز عن تلبية احتياجات ملايين الأشخاص”.
وفي السودان، البلد الذي يعاني من إحدى أسوأ الأزمات في العالم، سيُحرم أكثر من نصف مليون شخص من الوصول المنتظم إلى الغذاء. وفي اليمن، لن يتمكن نحو 220 ألف نازح ونازحة، من الحصول على الرعاية الصحية.
ويحذّر العديد من الخبراء والخبيرات، من أنّ هذه التخفيضات قد تُفضي، في نهاية المطاف، إلى انهيار بلدان مستقرّة حاليًّا، مما يُنذر بتفاقم الاحتياجات الإنسانيّة. وتُعدّ القارّة الأفريقيّة من أكثر المناطق عرضة لهذا الخطر؛ إذ تعتمد نصف دول القارة على المساعدات الخارجيّة، لتغطية أكثر من 30% من إنفاقها الصحيّ.
قطاع مضطرب
وعدا العواقب المباشرة، فقد أصبح قطاع بأكمله الآن ينقلب رأسًا على عقب. وتتسبّب تخفيضات إدارة ترامب في مشكلة، حتىّ بالنسبة إلى المنظّمات غير الحكوميّة التي لا تعتمد على الدعم الماليّ الأميركيّ. وهذا هو حال منظّمة أطباء بلا حدود، التي يأتي 97% من ميزانيّتها العالميّة، من التبرّعات الخاصّة.
ويوضح طارق باش بواب، رئيس قسم المناصرة في منظّمة أطبّاء بلا حدود في جنيف السويسريّة، قائلا: “لا تعمل منظّمة أطباء بلا حدود في فراغ، بل ضمن نظام يتعرّض حاليًّا لضغوط. ونحن نعتمد في أنشطتنا على وجود شركاء على الأرض، تتعرّض مواردهم للتهديد”.
وعلى سبيل المثال، تتلقى منظمة أطباء بلا حدود، جرعات من اللقاحات، من وزارات الصحة المحلية. وتستخدم المنظمة أيضًا خدمة الطائرات المستأجرة التابعة للأمم المتحدة، لنقل موظفيها وموظفاتها، جوًا إلى المناطق النائية، أو التي يعتبر الطريق إليها غير آمن. وتعتمد المنظمة غير الحكومية، في مخيمات اللاجئين واللاجئات، حيث تقدم الرعاية الصحية، على وجود أطراف إنسانية أخرى، لتوزيع المياه، والغذاء، والمأوى.
ويقول طارق باش بواب، بأسف: “إذا اختفت هذه الخدمات بسبب نقص التمويل، فسنضطرّ إلى تولّي مسؤوليّتها بأنفسنا، بتكلفة إضافيّة كبيرة، أو سنضطرّ إلى التخلّي عن بعض المشاريع”.
تحديد الأولويات، ممارسة محفوفة بالمخاطر
اقترحرابط خارجي توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، “إعادة ضبط المساعدات”، قائلًا إن القطاع “يواجه أزمة غير مسبوقة في التمويل والمعنويات، والشرعية”. وتكمن رسالته إلى بقيّة القطاع في قوله: “إنّنا بحاجة إلى إعادة التركيز،” لأنّه “لا يمكننا الاستمرار في القيام بكل شيء. […] ومع انخفاض الموارد بشكل كبير، يجب أن تكون أولويّتنا القصوى إنقاذ الأرواح.”
وتلقى هذه الرسالة، التي تدعو إلى “إعطاء الأولويّة” للفئات الأكثر ضعفًا، صدًى لدى بعض الكوادر العاملة في الميدان الإنسانيّ، التي تؤمن بضرورة إعادة التركيز على المساعدات الطارئة، مثل توفير المياه، والغذاء، والأدوية، والمأوى، بدلًا من تقديم خدمات أطول أمدًا، مثل التعليم، أو تعزيز إيجاد فرص عمل.
وكانت الاحتياجات الإنسانيّة العالميّة قد شهدت، على مدى العشرين عامًا الماضية، تزايدًا هائلًا. ففي عام 2005، قُدّرت تكلفتها بنحو 5 مليارات دولار، بينما يُتوقّع أن تتجاوز 47 مليارًا في عام 2025. وتأتي هذه الزيادة لمواكبة عجز تمويليّ متصاعد؛ إذ لم تحصل وكالات الأمم المتّحدة العام الماضي، سوى على 43% من إجماليّ التمويل المطلوب، البالغ 50 مليار دولار.
ويُعزى هذا التزايد في الاحتياجات الإنسانيّة إلى عوامل عدّة أبرزها؛ تزايد الصراعات غير المحسومة، وتأثيرات تغيّر المناخ المتفاقمة. ويرى بعض الخبراء والخبيرات أنّ العديد من الدول اختارت، على المدى الطويل، تحميل العاملين والعاملات في المجال الإنسانيّ عبء الاستجابة الموسّعة، بدلًا من معالجة أسباب تلك الأزمات
ولهذا السبب، أثارت رسالة توم فليتشر انقسامًا في الآراء. ويعلّق تمّام العودات، الرئيس التنفيذيّ لمؤسسة “ذا نيو هيومانيتاريان” الإعلامية المتخصّصة ومقرها جنيف، قائلًا: “تكمن المشكلة في هذا الخطاب في أنّك، إذا تمكّنت من خفض مواردك بنسبة 40%، فإنك تغذّي الرواية القائلة بأنّ النظام غير فعّال، ويعمل بشكل غير جيّد”.
ويرى فليتشر أنّ الحديث عن الكفاءة، والأولويّات، بدلًا من التطرّق إلى “فشل نظام التضامن الدوليّ”، يمنح الحكومات، التي تقلّص مساهماتها، ذريعة للتهرّب من مسؤوليّة اتّخاذ القرار بشأن من سيواصل الحصول على المساعدات الحيويّة، ومن سيُحرم منها. و يعتبر أنّ هذا الخيار يتجاوز حدود المسؤوليّة الأخلاقيّة الملقاة على عاتق المنظّمات الإنسانيّة.
تغييرات دائمة
منذ سنوات، والقطاع الإنساني يسعى إلى إجراء إصلاحات، خاصة في ما يتصل بتخصيص المزيد من التمويل للمنظمات غير الحكومية المحلية، بدلًا من الوكالات الكبرى، التي غالبًا ما تكون بعيدة عن واقع الميدان.
كما وضعت الأطراف الفاعلة في القطاع هدفًا، يتمثل في تنويع مصادر التمويل، وتعزيز الاستثمار في الإجراءات الاستباقية، والوقائية. لكن الرأي السائد بين معظم الخبراء والخبيرات، هو أن وتيرة التقدم لا تزال غير كافية.
وتقول فيرونيك دو جوفروا: “نطالب منذ سنوات، بتغييرات منهجية معينة، لكنها لم يُكتب لها النجاح، بسبب الجمود المفرط، وتشكل أوقات الأزمات، فرصة للتفكير، في إجراء تحولات أكثر أهمية”.
ولكنّ مستقبل هذا القطاع ليس مضمونًا على الإطلاق، بحسب ما أفاد به عدد من العاملين والعاملات في مجال الإغاثة، ممن تحدّثنا إليهم. ويتفق هؤلاء على أنّ “هدمَ منزل أسهلُ من إعادة بنائه” محذّرين من أنّ كثيرين قد يغادرون هذا المجال، وأنّ المنظّمات غير الحكوميّة ستختفي، وأنّ الرأي العام سوف يعتاد على هذا الواقع الجديد.
ويعمل دونالد ترامب على تسريع التآكل التدريجي في دعم الغرب للمساعدات الإنسانية، الذي بدأ قبل ولايته الثانية. وتتعدّد الأسباب وراء هذا التآكل؛ من الحرب في أوكرانيا، إلى تدابير التقشف التي أعقبت الجائحة، وصولًا إلى شعور عام بالإرهاق في صفوف الأطراف المانحة، في مواجهة أزمات لا تنفك تتفاقم.