8 مايو 1945: "مجازر الجزائريين التي يرفض الاحتلال الفرنسي تحمّل مسؤوليتها"
الجمعة - 09 مايو 2025 - 12:21 ص
أحداث العالم_ تقارير
في الثامن من مايو/أيار من كل عام، تتذكر أغلب شعوب العالم انتصار الحلفاء على النازية الألمانية، في الحرب العالمية الثانية. وتحيي الدول العظمى ذكرى إنزال نورماندي، وتحرير فرنسا، باستسلام الرايخ الثالث، بعد انتحار زعيمه أدولف هتلر.
ولكن الجزائريين لهم تاريخ مختلف في هذا اليوم. ذاكرتهم تسترجع صور "مجازر" سطيف، وقالمة وخراطة. المدن الجزائرية، التي شهدت حملة قمع وتقتيل واسعة، شنتها قوات الاحتلال الفرنسي، على المدنيين. وراح ضحيتها عشرات الآلاف، من النساء والرجال والأطفال.
فبينما كانت فرنسا تحتفل بالنصر والتحرير في باريس، كانت قواتها، في الجانب الأخر من البحر المتوسط، تقتل الجزائريين في بلادهم. متظاهرون سلميون خرجوا إلى الشوارع يحتفلون، هم أيضا، بالنصر على النازية، ويطالبون بالحرية، التي وعدتهم بها فرنسا وحلفاؤها.
تذكر كتب التاريخ أن ثورة التحرير الجزائرية اندلعت في أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954. لكن كثيرا من المؤرخين يعتقدون أن بذورها زرعت يوم 8 مايو/أيار 1945. إنها "المجازر" التي أشعلت فتيل ثورة الجزائريين الأخيرة على الاحتلال الفرنسي.
هذا ما عبّر عنه المؤرخ الجزائري، محمد حربي، في مقال نشره في 2005 بصحيفة لوموند دبلوماتيك، يقول فيه إن: "حرب الجزائر بدأت في سطيف يوم 8 مايو 1945". ويرى حربي أن هذه "المجازر" قطعت كل أمل في الحوار والتفاهم مع فرنسا.
وتتفق معه المؤرخة الفرنسية، آن ري غولدزيغر، إذ أن ما وقع في سطيف وقالمة وخراطة، يوم 8 مايو أيار 1945، "أغلق بوحشية وعنف منطقع النظير، آخر باب كان ربما سيؤدي إلى تطور سلمي للعلاقة بين الفرنسيين والجزائريين".
كيف تطورت الأحداث؟
خرج الجزائريون في مسيرات، نظمتها النقابات، في المدن الكبرى، احتفالا بعيد العمال في أول مايو. ورفعوا شعارات تطالب بالحرية والسيادة على أرضهم. وتعرض المتظاهرون لإطلاق نار في العاصمة أدى إلى مقتل اثنين. وقتل واحد آخر في وهران، غربي البلاد.
وبعدما ذاعت أخبار استسلام ألمانيا النازية، يوم 7 مايو/أيار، حدثت مناوشات وصدامات في الجزائر بين الأوروبيين، الذين خرجوا إلى الشوارع يهتفون "يحيا ديغول"، قائد المقاومة الفرنسية، والجزائريين الذين ردوا عليهم بشعار "يحيا مصالي"، زعيم الحركة الوطنية الجزائرية.
وتعززت ثقة الجزائريين في مطالبهم، بعد التضحيات التي قدموها في الحرب العالمية الثانية. وشجعتهم وعود ميثاق الأطلسي، الذي نص على تمكين الشعوب المحتلة من حقها في تقرير مصيرها، واحترام سيادتها، بعد دحر النازية الألمانية في أوروبا.
وكان ميثاق الأطلسي، الذي أعلنه الرئيس الأمريكي آنذاك، هاري ترومان، ورئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرتشل، في أغسطس/آب 1941، مبعث قلق لفرنسا. إذ شعرت سلطات الاحتلال بأنه تحريض لشعوب المستعمرات على التمرد.
واهتزت صورة القوة الاستعمارية الجبارة، التي كانت تظهر بها فرنسا في العالم، بعد هزيمة جيوشها أمام القوات النازية، واستسلام باريس للسيطرة الألمانية. وأصبح الجزائريون يرون بلادهم محتلة من بلاد منهزمة، هي نفسها خاضعة للاحتلال.
وفي يوم 8 مايو/أيار 1945، نظم الجزائريون، بمدينة سطيف احتفالا بنهاية الحرب العالمية، وبالنصر على النازية الألمانية. ورفعوا شعارات يطالبون فيها فرنسا بالإفراج عن زعيم حزب الشعب الجزائري مصالي الحاج، وبحقهم في الحرية والسيادة على أرضهم.
وفي وسط المتظاهرين رفع الشاب، بوزيد عسال، من الكشافة الإسلامية، علم حزب الشعب الجزائري، الذي أصبح فيما بعد علم الدولة الجزائرية. وأطلق عليه شرطي فرنسي النار، فأرداه قتيلاً.
أشعل مقتل الشاب بوزيد، البالغ من العمر 22 عاما، غضب الجزائريين، فاشتبكوا مع أجهزة الأمن، ومع المستوطنين الأوروبيين، بالخناجر والعصي، والأسلحة التقليدية. وتوسعت الاشتباكات إلى مدن قالمة وخراطة، والقرى والمداشر المجاورة.
وفي اليوم الأول من الاضطرابات، استدعى الحاكم العام للجزائر، إيف شاتينيو، القوات المسلحة، بقيادة الجنرال ريمون دوفال، "لسحق المتمردين" في المناطق الريفية. وكلف الشرطة وأجهزة الأمن الأخرى بقمع "أعمال الشغب" في مدن سطيف وقالمة وخراطة.
"حرب حقيقية على المدنيين"
ويذكر مؤرخون فرنسيون، من بينهم جون شارل جوفري، وجون بيير بيريلو، وآني ري غولدزيغر في كتبهم عن "مجازر" 8 مايو/أيار 1945 أن "قوات الاحتلال الفرنسي تصرفت كأنها في حرب حقيقية مع الأهالي العزل أو الذين يحملون العصي والخناجر".
واستعمل الجيش الفرنسي أسلحته البرية والبحرية والجوية لسحق "المتمردين" الجزائريين.
فألقت طائرات بي 29، في 39 طلعة، 30 طناً من القنابل ما بين 9 و19 مايو/أيار. أما طائرات أي 24، التي تحلق على علو منخفض، فألقت 3 أطنان من القنابل في 39 طلعة، على القرى والتجمعات السكنية، في الأرياف والمناطق الجبلية.
وفي 10 و11 مايو/أيار، أطلقت السفينة الطرادة، دوغوي تروان، في رأس أوقاس، شرقي الجزائر، نيرانها 10 مرات على المناطق السكنية القريبة. وتحصي الوثائق والشهادات، التي جمعها مؤرخون، استعمال المدفعية الثقيلة، بإطلاق 858 قذيفة على القرى والمداشر.
وفي المناطق الحضرية، يذكر مؤرخون أن نائب حاكم قسنطينة، أندري أشياري، شكل مليشيا من الأوروبيين لملاحقة "العرب" في الشوارع وقتلهم، أينما وجدوا. ولم يسلم من رصاص المليشيا ودوريات الجيش إلا من كان يحمل شارة على ذراعه تمنحها إدارة الاحتلال.
وأنشأ أشياري تنظيماً "غير قانوني" للمسلحين الأوروبيين، أطلق عليه اسم "مجلس المليشيا". وشكل أيضاً "محكمة عرفية"، تسمى "لجنة الإنقاذ العامة"، مهمتها إصدار أحكام بالإعدام على الجزائريين. وأعدم العشرات بناء على هذا الأحكام "العرفية".
"مراسم الاستسلام"
وبعد انتهاء العمليات العسكرية يوم 22 مايو/أيار 1945، نظمت سلطات الاحتلال الفرنسي مراسم "استسلام" للجزائريين في منطقة مالبو، على بعد 36 كيلومتراً من ولاية بجاية، شرقي الجزائر.
وجمع الجنود الفرنسيون آلاف السكان المنتشرين في القرى الجبلية المتناثر في المنطقة، بينهم أطفال ونساء حوامل، وشيوخ عجزة، في شاطئ تاخلاويط، "ليتوسلوا المغفرة والرحمة" من السلطات الفرنسية.
ووقف الجنرال، هونري مارتين، قائد القوات الفرنسية في شمال أفريقيا، على تلة فوق الأهالي المكدسين في الأسفل، ليعلن القضاء على "المتمردين"، ونهاية "أعمال الشغب". وأجبر الأهالي الجزائريين على الاستماع إلى خطابه، وهم جاثون على ركبهم.
تذكر المصادر الفرنسية الرسمية عدد القتلى الأوروبيين، بأسمائهم ومهنهم وظروف قتلهم. فعددهم 102، منهم 86 مدنيون، و16 عسكريون. ولكنها تختلف بشأن عدد القتلى الجزائريين. ويجمع أغلب المؤرخين الفرنسيين على أنهم عشرات الآلاف.
وتقدر المصادر الاستخباراتية الأمريكية عدد الضحايا الجزائريين بحوالي 30 ألفا. أما الجزائريون فيؤكدون أن 45 ألف جزائري قتلوا في "مجازر" 8 مايو 1945، في سطيف وقالمة وخراطة، على يد قوات الاحتلال الفرنسي ومليشيا الأوروبيين، المرتبطة بها.
ويرى مؤرخون مثل جون بيير بيرولو أن العدد الحقيقي قد يكون أعلى، لأن الجزائريين في الأرياف والمناطق الجبلية لا يبلغون عن مقتل ذويهم للسلطات الفرنسية. وسجلات إحصائهم في الإدارة الاستعمارية غير دقيقة.
وتحدثت الشهادات التي جمعها المؤرخون عن لجوء قوات الاحتلال الفرنسية إلى حرق الجثث ودفنها في مقابر جماعية، في المناطق النائية والمعزولة. ولم تنشر فرنسا أي نتيجة رسمية للتحقيقات، التي أعلنت عنها وقتها.
إنكار وصمت
وعندما وصلت أخبار سطيف وقالمة وخراطة إلى رئيس الحكومة الفرنسية المؤقتة، الجنرال شارل ديغول، كتب برقية إلى حاكمه العام في الجزائر، إيف شاتينيو، جاء فيها: "بلغوا عائلات ضحايا اعتداءات سطيف تضامن الجنرال ديغول، وتضامن جميع أعضاء الحكومة معهم".
فهذا تضامن مع عائلات الضحايا الأوروبيين وحدهم. أما الجزائريون فتوعدهم ديغول في تعليماته إلى شاتينيو بالعقاب والقمع، قائلا: "عليكم أن تؤكدوا على أن فرنسا المنتصرة لن تسمح بالمساس، بأي شكل من الأشكال، بالسيادة الفرنسية على الجزائر".
وتضيف البرقية: "عليكم أن تتخذوا أي إجراء ضروري لقمع أي عمل معاد لفرنسا، يصدر عن هذه القلة من المشوشين". و"عليكم أن تؤكدوا لهم أن ثقة فرنسا كاملة في جماهير الفرنسيين المسلمين في الجزائر".
ويذكر المؤرخ الفرنسي، بنجامين ستورا، في مقابلة مع قناة فرانس 24، باستغراب كيف أن فرنسا أنكرت "مجازر" 8 مايو 1945 تماماً. فلم يتحدث عنها أحد. لا في الحكومة ولا في المعارضة. وسكت عنها المثقفون والعلماء والحقوقيون، كأنها لم تحدث.
والأغرب من ذلك أن ألبير كامو، الذي ولد في الجزائر ونشأ فيها، تحاشى استعمال كلمة "المجازر"، وهو يكتب في صحيفته "المعركة" عما جرى في سطيف وقالمة وخراطة. واكتفى بالحديث عن الوضع "الخطير"، وعن معاناة الجزائريين والأوروبيين على حد سواء.
ولم يسمع أحد صوت رجال ونساء المقاومة الفرنسية، المنتصرة لتوها على النازية الألمانية. فلم تحركها مبادئ الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. ولا يزال السؤال محيرا للباحثين والمؤرخين. كيف لمن قاوم الاحتلال في أوروبا أن يسكت عن مجازره في الضفة الأخرى من البحر المتوسط؟
واتفقت وسائل الإعلام الفرنسية، في اليمين واليسار، على اتهام الجزائريين بالاعتداء على الأوروبيين. فكتبت صحيفة فرانس سوار على صفحتها الأولى ليوم 14 مايو/أيار 1945: "المشوش فرحات عباس هو الذي أثار الاضطرابات في الجزائر".
واكتفت صحيفة لوموند بنشر بيانات الحكومة الفرنسية. ثم نشرت تقريرا بعنوان: " أعمال شغب دامية في سطيف"، تحدثت فيه عن "الدور الأمريكي المشبوه". أما الحزب الشيوعي فاتهم، في صحيفته "لومانيتي" المتظاهرين الجزائريين بأنهم "فاشيون أفسدوا يوم الانتصار".
وفي وسائل الإعلام الغربية، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا يوم 13 مايو 1945 بعنوان: "عرب يقتلون 50 في الجزائر. أوروبيون يتعرضون للقتل في يوم الانتصار". واستندت الصحيفة في تقريرها إلى برقية من وكالة أسوشيد برس.
الاعتراف بعد 60 عاماً
واستمر إنكار فرنسا لـ"مجازر" 8 مايو 1945 في الجزائر ستين سنة كاملة. وفي 2005، فاجأ السفير الفرنسي، هوبير كولين دي فيرديير، الجزائريين عندما أعلن، من مدينة سطيف، اعتراف بلاده "بالمجازر"، واصفا إياها بأنها "مأساة لا تغتفر".
وفي زيارة رسمية للجزائر في 2012، وصف الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، لأول مرة، الاحتلال الفرنسي للجزائر، بأنه "نظام ظالم ووحشي". وتحدث عن معاناة الشعب الجزائري من "مجازر الاحتلال"، من بينها "مجازر سطيف، 8 مايو 1945".
ولكن الدولة الفرنسية ترفض إلى اليوم، وبعد 80 سنة، تحمل مسؤولية هذه المجازر، على الرغم من الاعتراف بوقوعها منذ 20 عاما. وفي 2015، تشكلت في فرنسا لجنة من الجامعيين والحقوقيين تطالب بالاعتراف بمجازر 8 مايو 1945 بأنها جرائم دولة وجرائم ضد الإنسانية.
وذكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته للجزائر، في 2022، أن 175 ألف جزائري قاتلوا دفاعاً عن فرنسا في الحرب العالمية الأولى. 26 ألفا منهم قتلوا أو اختفوا. وفي الحرب العالمية الثانية، جندت فرنسا 150 ألف جزائري. قتل منهم 16 ألفاً، في المعارك ضد النازية الألمانية.
"الجزائريون الذين حرروا فرنسا"
يرى الكثير من الباحثين في شؤون الاستعمار الفرنسي أن التاريخ الرسمي لم ينصف الجزائريين، الذي شاركوا في جميع حروب فرنسا. وجندت سلطات الاحتلال عشرات الآلاف منهم منذ عام 1830، مروراً بالحرب العالمية الأولى 1914-1918، والحرب العالمية الثانية 1939-1945.
وكان أغلب المجندين شباباً أميين من الأرياف والمناطق الأكثر حرماناً. التحقوا بالجيش الفرنسي إما مجبرين بقوانين التجنيد الاستعمارية، أو مضطرين بسبب الفقر والفاقة. ولم يسجل دورهم البارز وتضحياتهم الجسيمة في التاريخ الرسمي الفرنسي، بما يستحقون.
واعترافاً بدور الرماة الجزائريين وتضحياتهم من أجل تحرير فرنسا، قرر مجلس بلدية مرسيليا، في عام 2022، إطلاق اسم يطل معركة نوتردام دي لاغارد الجزائري، أحمد ليتيم، على مدرسة ابتدائية في المدينة. وقتل ليتيم في المعركة التي أدت إلى تحرير مرسيليا في 1944.
وكانت المقاومة الفرنسية، التي بدأها، غاستون لوفير، في مرسيليا يوم 21 أغسطس/آب عاجزة أمام القوات الألمانية المحتلة، لقلة عددها وعتادها. وبعد يومين اجتازت الفرقة الثالثة للرماة الجزائريين التلال المحيطة بالمدينة، ودخل مقاتلوها في حرب شوارع مع الجنود النازيين.
وانضم إليها فيلق الرماة السابع. ودارت معارك ضارية لمدة ثلاثة أيام، بالسلاح الخفيف أحيانا، وبالخناجر، رجلا لرجل، أحيانا أخرى. وسيطر الرماة الجزائريون، في 27 أغسطس آب ليلا، على الميناء ثم على المدينة كاملة.
واستسلم الجنرال، هانس شافر، ومعه 11 ألف جندي ألماني من قواته. ولكن الثمن كان غاليا. 1800 قتيل وجريح في أسبوع واحد، من بينهم أحمد ليتيم. وكان العريف الشاب، القادم من مدينة الجلفة ـ بالجنوب الجزائري، يقاتل في الجبهة الإيطالية، منذ 1943، قبل أن يستدعى مع فيلقه لتحرير مرسيليا.
من يتحمل مسؤولية المجازر؟
وتجدد اليوم لجنة الاعتراف بجرائم الدولة في 1945 بالجزائر مطالبها إلى السلطات الفرنسية بتحمل مسؤولية المجازر، التي وقعت في سطيف وقالمة وخراطة بالجزائر.
ويقول الأكاديمي الفرنسي، أوليفيي لوكور غراند ميزون، في بيان للجنة: "يستحيل علينا أن نحتفل بالذكرى الثمانين للانتصار على النازية، دون أن ننتشل من النسيان ما حدث في الجزائر، في هذا اليوم، وفي الأيام التالية له".