مقالات صحفية


الوحدة اليمنية بين الجذور التاريخية والتحديات الراهنة: مدخل لبناء تسوية سياسية وطنية

الأربعاء - 21 مايو 2025 - الساعة 12:57 م

مهند الغرساني
الكاتب: مهند الغرساني - ارشيف الكاتب



يُعد مفهوم الوحدة من المفاهيم المتجذّرة في التاريخ اليمني بمختلف عصوره، وليس حدثًا عابرًا فرضته التحولات السياسية والاقتصادية المعاصرة. فعلى الرغم من تعرّض الوحدة اليمنية عبر التاريخ لهزّات وتحديات، قديمة وحديثة، إلا أنها ظلّت مبدأً راسخًا لا يتجاهله إلا من يتناسى المسار التاريخي لليمن.

لقد نشأت الكيانات السياسية في اليمن على أساس الوحدة، وانقسمت بفعل الصراعات السياسية والطموحات الاقتصادية، مما أسفر عن نشوء "يمن سياسي" متعدّد، لا "يمن قومي" موحّد. فالتجزئة والتعدد في الواقع اليمني لم تكن سوى نتيجة عارضة لتلك الصراعات والتباينات، وليست تعبيرًا عن انقسام هوياتي أو قومي حقيقي. وما تجربة اليمن الحديث قبل 22 مايو 1990 إلا امتداد لسلسلة من الانشطارات والتجزئات ذات الطابع السياسي والاقتصادي، وليست انعكاسًا لانقسام في الهوية أو الانتماء القومي، فالشعب واحد، وإن اتخذت الدولة شكلًا شطريًا بين شمال وجنوب، نشأت فيه تباينات سياسية واقتصادية واجتماعية، ترافقت مع ضعف في أداء النخب اليمنية وفهمها العميق لتاريخ اليمن السياسي.

وعليه، فإن الوحدة اليمنية التي تحققت في 22 مايو 1990 لم تكن حدثًا عابرًا في ذاكرة الشعب اليمني، بل جاءت كتتويج لمسار طويل من التضحيات والنضالات المشتركة لأبناء الوطن في الشطرين، في ظل ظروف وسياقات موضوعية دفعت بقيادتي الشطرين إلى تحقيق الوحدة بصيغتها الاندماجية. وقد تفاعل الشعب اليمني مع هذه الخطوة بحماس كبير، وتطلّع إلى وحدة وطنية تقوم على أسس مدروسة تستجيب لتضحياته الجسام، والتي دفع من أجلها دماءً زكية في مسيرة نضاله الوطني.

ورغم ما واجهته الوحدة من تحديات، وما ارتبط بها من إخفاقات على مستوى الصيغة السياسية والتنفيذية – إذا جاز التعبير – فإن ذلك لا يبرر المساس بمبدأ الوحدة أو تقويضه من خلال مطالب تُصاغ في قالب هوياتي مبتور. فمثل هذه الطروحات، وإن اتخذت طابعًا وطنيًا ظاهريًا، فإنها تفتقر إلى العمق الموضوعي، وقد تواجه المصير نفسه الذي واجهته الظروف التي دفعت بقيادات الشطرين سابقًا إلى تجاوز الانقسام وتحقيق الوحدة.

تواجه الوحدة اليمنية اليوم جملة من التحديات المعقّدة والمتداخلة، التي تهدّد كيان الدولة اليمنية، وتلقي بظلالها على مستقبل التسوية السياسية في البلاد. وتأتي في مقدمة هذه التحديات تنامي النزعات الانفصالية، لاسيما في الجنوب، حيث تصاعدت المطالب السياسية التي تدعو إلى فك الارتباط واستعادة ما يُسمّى بالدولة الجنوبية السابقة، في ظل حالة من التراجع المؤسسي للدولة المركزية، وتآكل حضورها في العديد من المحافظات.

كما يُعد الانقسام السياسي والعسكري بين القوى المتصارعة تحدّيًا جوهريًا يعيق تحقيق وحدة حقيقية على الأرض. فقد أدّت الحرب المستمرة منذ عام 2014 إلى ترسيخ سلطات أمر واقع متعددة، تتوزع بين جماعة الحوثي في الشمال، والمجلس الانتقالي الجنوبي في الجنوب، وقوى أخرى ذات ارتباطات إقليمية أو محلية، الأمر الذي خلق واقعًا جغرافيًا وسياسيًا ممزقًا يتعارض مع مبدأ الوحدة والسيادة الوطنية.

ويترافق ذلك مع حالة من التدهور الاقتصادي الحاد، وغياب الخدمات الأساسية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مما يغذي مشاعر التهميش والاحتقان لدى بعض الفئات والمناطق، ويُوظف في الخطاب الانفصالي لتبرير مشاريع التقسيم والانفصال، بعيدًا عن المعالجة الجذرية لأسباب الأزمة الوطنية.

أما على المستوى الإقليمي والدولي، فإن تعدّد الأجندات الخارجية وتضارب مصالح القوى الإقليمية والدولية في اليمن، أسهم في تعزيز الانقسامات الداخلية، ودعم كيانات موازية للدولة المركزية، ما أدى إلى إضعاف بنية الدولة الوطنية، وإفشال أي مشروع وطني جامع يقوم على الوحدة والسيادة.

ومن التحديات العميقة أيضًا، غياب مشروع وطني جامع تلتف حوله مختلف القوى والمكونات، قادر على استيعاب التنوع السياسي والاجتماعي والمناطقي، دون أن يتحوّل إلى دعوات تفكيكية أو صيغ محاصصة تكرّس الانقسام. إذ لا تزال التسوية السياسية في اليمن، حتى اللحظة، رهينة لمقاربات تتعامل مع الواقع المجزّأ كأمر واقع، بدلاً من السعي لمعالجة أسبابه وتجاوزه ضمن إطار وطني موحّد.

في ضوء ما سبق، فإن الحفاظ على الوحدة اليمنية في المرحلة الراهنة يتطلب إعادة تعريف هذا المفهوم ضمن إطار يراعي العدالة والتمثيل والتعدد، ويُعيد بناء الثقة بين المركز والأطراف، وبين الدولة والمجتمع. ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلا عبر تسوية سياسية شاملة، تُبنى على أسس المواطنة المتساوية، والعدالة الانتقالية، وتوزيع عادل للسلطة والثروة، ضمن دولة مدنية ديمقراطية تُعبّر عن الإرادة الجامعة للشعب اليمني بكل مكوناته.

إن الحفاظ على سيادة اليمن ووحدته لا يُعد مجرد خيار سياسي أو طرح أيديولوجي، بل يمثل ضرورة وطنية واستراتيجية تفرضها حقائق التاريخ والجغرافيا والمصلحة العامة لليمنيين. فالوحدة اليمنية، بما تمثله من رمزية وطنية وجغرافية، كانت وما تزال الإطار الأقدر على استيعاب التعدد والتنوع ضمن دولة جامعة تتأسس على مبادئ الشراكة والعدالة والمواطنة المتساوية.

وإزاء التحديات الراهنة التي تهدد هذه الوحدة، يبرز هذا المدخل كخيار واقعي وضروري لأي تسوية سياسية شاملة ومستدامة. إذ إن التسويات التي تقوم على منطق التقسيم أو الاستجابة للمطالب الانفصالية بمعزل عن المعالجة الجذرية لمسببات الصراع، إنما تُنذر بإعادة إنتاج الأزمة بأشكال جديدة قد تكون أكثر تعقيدًا.

وعليه، فإن التسوية السياسية المنشودة يجب أن تنطلق من مدخل الحفاظ على وحدة اليمن وسيادته، لا باعتبارها ثوابت مجردة، بل بوصفها إطارًا مرنًا ومفتوحًا لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، تستوعب المتغيرات والتحولات، وتُراعي مصالح جميع المكونات، وتُرسّخ التوافق الوطني على صيغة الدولة وشكل الحكم وآليات تقاسم السلطة والثروة. فالوحدة ليست نقيضًا للعدالة، بل يمكن أن تكون حاضنًا لها متى ما اقترنت بالإصلاح والإنصاف، وتحوّلت من شعارات مركزية إلى مشروع وطني جامع يشترك في صناعته الجميع.




شاهد ايضا


الرئيس العليمي يؤكد جوهرية القضية الجنوبية كأساس لأي تسوية سياسية قادم ...

الأربعاء/21/مايو/2025 - 09:35 م

جدّد رئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، تأكيده أن القضية الجنوبية تمثل جوهر أي تسوية سياسية عادلة في اليمن، مشددًا على أن معالجتها لا يمكن أن تت


فرنسا: كل الخيارات مطروحة ضد “إسرائيل” وتجري مناقشتها أوروبيا ...

الأربعاء/21/مايو/2025 - 08:49 م

أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، كريستوف لوموان أن بلاده تفكر في توسيع العقوبات على “إسرائيل” بسبب انتهاكاتها في قطاع غزة، وقال إن “كل الخيار


«كُفّن ودُفن مؤقتاً في نفق»... مصدران يؤكدان اغتيال محمد السنوار ...

الأربعاء/21/مايو/2025 - 06:22 م

أكد مصدران فلسطينيان، الأربعاء،أن محمد السنوار، قائد «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، قُتل برفقة قيادات أخرى من الكتائب في نفق تحت الأرض في