في يومٍ من أعظم أيام الدنيا، وفي مكانٍ يُعتبر من أقدس البقاع، تجمعت حشود هائلة من المسلمين في مشهدٍ لم تعهده الجزيرة العربية من قبل. لقد اختار الله سبحانه وتعالى أن يُختم في هذا اليوم مسيرة كفاحٍ استمرت لربع قرن ضد الوثنية، ليُعلن فيه اكتمال الوحي وإتمام النعمة، ويُعتبر الإسلام الدين الخاتم لجميع الرسالات السماوية.
تجلت عظمة هذا اليوم في قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينًا". هذه الآيات تحمل في طياتها معاني عميقة تتعلق بثوابت إسلامية تتجاوز مجرد العبادات؛ فهي تشمل جميع جوانب الحياة. إن المفاهيم المتعلقة بالحلال والحرام
هذه الشريعة تشمل العقيدة والشعائر والمعاملات، مما يُظهر أن الدين الإسلامي هو منهج متكامل يرتضيه الله تعالى للمسلمين. إن التفريط في أي جزئية من هذا المنهج يعني التفريط في الدين نفسه، ورفض أي جزء منه يُعدُّ بمثابة رفض لسلطة الله وألوهيته. لذلك، كتب الله لهذا الدين البقاء، وأثبت له الكمال، وأكد له الديمومة.
وعلى الرغم من فترات الضعف والانكسار التي قد يتعرض لها المسلمون، إلا أن الدين يبقى محفوظًا كما وعد الله: "إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون". إن أعداء الله لا يستطيعون النيل من الدين إلا عندما ينحرف المسلمون عنه، ويبتعدون عن تطبيق تعاليمه في حياتهم اليومية. لكن، في كل مرة، تظهر طائفة من المسلمين لتعيد تصحيح المسار وإعادة التوجيه، مما يُظهر قوة هذا الدين وثباته.
ليس من قبيل الصدفة أن يُختتم تاريخ كفاح الأنبياء من آدم إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) في هذا اليوم، وفي هذا المكان. جبل عرفات هو المكان الذي هبط فيه آدم من الجنة، والكعبة هو أول بيت بُني لتوحيد الله في الأرض. أراد الله أن يُكمل سلسلة الصراع مع قوى الكفر في هذا المكان، لتكون هذه الذكرى خالدة في كتابه العزيز، ولتكون منهجًا لكل أتباع الرسل.
تتجلى أهمية الحج في تعزيز الوحدة بين المسلمين، إذ يجتمع أكثر من مليوني مسلم من مختلف الأجناس والأعراق والأعمار في لباسٍ واحد، يتجهون نحو قبلة واحدة، يدعون بدعاءٍ واحد. هذا المشهد يُظهر كيف أن التقوى هي المعيار الوحيد للتفاضل بين الناس، كما قال تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
في خطبة الوداع، حرص النبي (صلى الله عليه وسلم) على التأكيد على مبادئ الأخوة والمساواة وحرمة الدماء، مما يُرسخ أسس التعامل بين المسلمين ومع غيرهم. إن جبل عرفة يُمثل نقطة انطلاق الأنبياء ونقطة التقاء الأمم في رسالة واحدة، حيث انطلق نور التوحيد من هذا الجبل ليكتمل على يد خاتم الأنبياء.
تتجلى القيم والمبادئ الإسلامية في أبهى صورها خلال شعيرة الحج، مما يُعزز من مفهوم الوحدة والتعاون بين المسلمين. إن هذه اللحظات التاريخية تعكس روح الإسلام الحقيقية، وتُظهر كيف يمكن للأمة أن تتحد رغم اختلافاتها، لتكون صفًا واحدًا في مواجهة التحديات. إن الحج ليس مجرد عبادة، بل هو تجسيد للروح الجماعية التي تجمع المسلمين في كل أنحاء العالم، وتُعزز من روابطهم الأخوية.
في الختام، يُعتبر جبل عرفات رمزًا للكمال الإلهي ووحدة الأمة، حيث تجتمع قلوب المسلمين في حب الله وطاعته.